الاغتراب هو تلك الهوة الصامتة التي تتسع بين الذات والعالم، حجاب شبحي يجعل المناظر المألوفة غريبة والأصوات الحميمة أصداء بعيدة. إنه ذلك الانفصال العميق، ليس فقط عن المجتمع بل عن جوهر الذات نفسها – شرخ مقلق في مرآة الروح حيث لم تعد الصورة المنعكسة تتعرف على أصلها.
فلسفيًا، نسج الاغتراب نفسه في نسيج الوجود الإنساني كظل غير مدعو. فمن تأملات أفلاطون المبكرة حول الذات المنقسمة إلى جدلية الوعي عند هيجل، هو عملية يصبح فيها المرء غريبًا عن نفسه، عالقًا في التوتر بين الاعتراف والابتعاد. وقد عمّق ماركس هذا المفهوم، كاشفًا الاغتراب كانفصال العامل عن ثمار عمله، وعن فعل الإبداع، وعن طبيعته الإنسانية، وعن بني جنسه – تفتت تولده الهياكل الرأسمالية التي تحول الإنسان إلى مجرد ترس، شبح يطارد عمل حياته.
الاغتراب هو الشجرة التي لا جذور لها، أغصانها تتوق إلى الانتماء لكنها لا تمسك إلا بالهواء الفارغ. إنه نفي الهوية، روح هائمة تائهة في متاهة مدن وثقافات الحداثة اللامبالية. يسكن الفرد المغترب عالمًا يشعر بأنه واسع جدًا وضيق جدًا في آن واحد، حيث الذات جزيرة وحيدة محاطة بمحيط من اللامبالاة والعبث. هذه الحالة ليست اجتماعية فحسب بل وجودية – أزمة كيان حيث يتلاشى السؤال "من أنا؟" في الفراغ، تاركًا وراءه صدى أجوف للذات.
لطالما كانت الأدبيات هي اللوحة القماشية لهذا الرقص الشبحي للعزلة. البطل المغترب، شخصية متكررة في أدب القرن العشرين، يجسد الصرخة الصامتة لعدم التجذر والبحث اليائس عن المعنى في عالم يبدو أنه نسي لغة الانتماء. كشبح ينجرف عبر ممرات مظلمة، تطارد هذه الشخصية فقدان الهوية، عالقة بين الثقافات، والذوات، والمسيرة الحثيثة للزمن – لا حاضرة تمامًا، ولا في وطنها تمامًا.
الاغتراب هو السماء السوداء القاحلة التي ترتجف تحتها الروح – حرب نبيلة تُشن في صمت، شيطان بائس يقضم حواف الوجود. إنه الشبح البعيد، والتمرد الداخلي، واضطراب الذات التي يطاردها ظلها. ومع ذلك، يكمن في هذا الاغتراب مفارقة الحرية والمسؤولية، كما أوضح سارتر: الذات محكوم عليها بالحرية، مثقلة بمهمة صياغة المعنى وسط الفراغ.
في هذا الشفق من الابتعاد، يصبح الاغتراب لعنة وبوتقة في آن واحد – صحوة مؤلمة لكسور الوجود ودعوة لمواجهة الهاوية. إنه ألم الوحدة الذي يجبر الروح على البحث عن الكمال خارج المرايا المغتربة للمجتمع والذات، لاستعادة الخيوط المفقودة للهوية ونسجها من جديد في نسيج من الانتماء والهدف.
وهكذا، فإن الاغتراب ليس مجرد حالة يجب تحملها بل رحلة فلسفية عميقة – هبوط إلى أعماق الانفصال قد يؤدي مع ذلك إلى إعادة اكتشاف الاتصال، واستعادة الذات، والأمل الهش في المصالحة مع العالم.
