مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

مفنى الروح

 

في مكانٍ ما، خارج حدود الخرائط المألوفة وأبعد من مرمى بوصلة أيّ بحّار، أرسو أنا. لستُ مجرد إنسان، بل صرتُ جزيرةً قذفت بها أقدارها في محيطٍ من الصمت اللجيّ. جزيرةٌ لا اسم لها في دفاتر الجغرافيا، ولا يرفرف على شطآنها علمٌ، لأنها ببساطةٍ لم تُكتَشَف بعد. هي أنا، وأنا هي؛ كتلةٌ من اليابسة تحاصرها أمواج الوحشة من كل اتجاه.


أرضي جرداء، لا لأنها بلا تربة، بل لأن بذور الألفة لم تجد طريقاً إليها. سمائي رمادية، لا لأن الشمس تأبى الشروق، بل لأن عيون الآخرين لم تكن أبداً شموساً تمنح الدفء والنور. أقف على أعلى تلالي الصخرية، أراقب الأفق الممتد أمامي كصفحة بيضاء لم يُكتب عليها وعدٌ بقدوم أحد. مرّت سفنٌ كثيرة، أشرعتها تلمع من بعيد كأحلامٍ واهية، لكنها لم تكن تبحث عن كنزٍ دفين في روحي، بل عن مرافئ سهلة ومآرب عابرة. تجاوزوني، كما يتجاوز المسافر محطةً مهجورة لا تعنيه.


لقد خذلني الناس، حتى بهت لوني في أعينهم. تحوّلتُ شيئاً فشيئاً إلى كيانٍ شفّاف، كالهواء الذي يمرون من خلاله دون أن يشعروا به. وجودي صرخةٌ مكتومة في فراغ، لا أذن تلتقطها. أرى العالم يتحرك، يضحك، يعيش، وأنا خلف زجاجٍ غير مرئي، أراهم ولا يرونني، أسمعهم ولا يلقون لي بالاً. وكأنني حبرٌ سُكب على ورقة سوداء، موجودٌ، لكنه غير مقروء.


لستُ حبيس جغرافية هذه الجزيرة فحسب، بل حبيس أسوارٍ من الخوف والإحباط شيّدتها خيبات الأمل، وعزّزتها لكمات الخذلان. كلما لمحتُ في الأفق ما قد يشبه يداً ممتدة، انكمشت على نفسي خوفاً من أن تكون سراباً آخر، أو فخاً جديداً يقتات على ما تبقى من ثقتي الهشّة. أصبحتُ أخاف القرب أكثر مما أشتهيه، وأهرب من النجاة خشية أن تكون غرقاً أشد إيلاماً.


وحتى تلك اليابسة التي انحدرتُ منها، ذلك الأصل الذي من المفترض أن يكون مرساي الأول، باتت ضفةً بعيدة، يفصلني عنها محيطٌ من الصمت الذي لا يُعبَر. هناك جسورٌ تهدمت في العتمة، وطرقاتٌ غمرها مدٌّ من الجفاء الغامض.


أنا هنا، على جزيرتي هذه، أحتضن حزني وأتنفّس الوحدة. لا صديق يشاركني صمت الغروب، ولا حبيب يدفئ لياليَّ الباردة، ولا صاحب يقرأ في ملامحي ما عجز لساني عن قوله. أنا ظلٌّ بلا جسد، وصوتٌ بلا صدى.

واليوم، أكتب رسالتي هذه لا لأحدٍ بعينه، فليس هناك من ينتظرها. أكتبها لألقي بها في زجاجة، وأودعها أمواج العدم. لعلّ موجةً ضالة، بعد دهورٍ من الآن، تحملها يوماً إلى شاطئ قلبٍ يعرف كيف يقرأ خرائط الأرواح المهجورة، ويفهم لغة الجزر التي لم تُكتَشَف بعد. 


أحدث أقدم