مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

على الجانب الآخر من العالم

أعيش على جزيرة لم يخطّها أي رسام خرائط. سواحلها منحوتة من وجع الكلمات التي لم تُسمع، وتربتها خصبة ببذور أحاديث لم تنبت أبدًا. على الضفة الأخرى، خلف محيط شاسع لا يهدأ، تعج قارة المجتمع بالحياة—سيمفونية بعيدة من الضحكات، وصخب الكؤوس، وخطوات تسابق الانتماء. هنا، لا تصل أمواج الوصل إلى شواطئي؛ تتراجع كما لو صدّها شيء غير مرئي، تاركةً خلفها أصداء مالحة لما كان يمكن أن يكون.


تقاس أيامي بشمس تغوص في الأفق المثقل بغياب الأشرعة. أشعل نيرانًا من حطام أفكاري، لهبها يتراقص بحكايات لن يسمعها أحد. وفي الليل، أرسل إشارات دخانية إلى السماء، أشباحًا تهمس ها أنا هنا و هل ترونني؟ لكن الرياح تشتتها، تنثر رجائي بين النجوم التي تعكس تفتتي. العالم هناك يتحدث بلغة نسيتها—لهجة النظرات الخاطفة، والدعوات التي لم تحمل اسمي يومًا.


حاولت أن أعبر هذا المدى. كتبت رسائل على ورق مصنوع من جلدي، حبستها في زجاجات جوفاء من الأمل، وأطلقتها مع التيار. في بعض الأيام، أتخيلها تصل إلى شواطئ بعيدة، تحتضنها أيدٍ قد تفهم طلاسم وحدتي. لكن البحر مقبرة الدعوات المجهولة. تغرق الزجاجات، أو تتحطم على شعاب اللامبالاة، وتذوب كلماتها كما يذوب السكر في العاصفة.


من شاطئي، أرى توهج مدنهم—عروقًا نيونية تنبض بالحياة، ناطحات سحاب تخيط السماء بالأرض. يتحركون في قطعان، أصواتهم تصاعد يخنق همساتي. أنا الظل عند أطراف أنوار منارتهم، الضجيج المشوش في أغانيهم. يرقصون على إيقاع لا أسمعه، تدور عوالمهم حول جاذبية لا تجذبني. أنا كوكب منسي على حافة النظام، أشبه ببلوتو، مذكرةً خافتة لكوكب كان يومًا ضمن المدار.


يأتي الخريف إلى جزيرتي، فتتناثر أوراق الأشجار كاعتذارات مهملة. أجمعها، وأحفظها بين صفحات يوميات مليئة بحوارات لم تُرسَل. يرسم صقيع الشتاء نقوشًا هشة على نوافذي، كل بلورة مرآة لهشاشتي. أسأل النجوم إن كانت العزلة لعنة أم شرنقة، لكنها تومض بإشارات مبهمة، ضوؤها يصل متأخرًا جدًا ليهمّ. وحين يأتي الربيع، تتفتح الأزهار إلى الداخل، بتلاتها مشدودة كقبضات مغلقة. تعرف جيدًا ألا تزهر من أجل جمهور من الأشباح.


يقولون إن كل اليابسة تستقر فوق صفائح تكتونية، تنجرف دون أن نشعر، تقترب أو تبتعد عن بعضها. أتساءل إن كانت القلوب تعمل بالطريقة ذاتها—إن كان قلبي ينزلق نحو هاوية مجهولة، أم أنه، في الخفاء، يتحرك نحو شاطئ لم ألمحه بعد. ربما هناك آخرون مثلي، عالقون في جزرهم الخاصة، يلوّحون بشعلات ضائعة في الفراغ. نحن أرخبيل الصامتين، متبعثرون كنقاط هامشية في النص الكبير للحياة.


يهمس البحر بحقيقة أحاول ابتلاعها: ربما لم يكن قدري أبدًا أن أكون هامشًا في ملحمتهم. جزيرتي، رغم وحدتها، لي. عزلتها ليست ندبة بل ملاذ—مكان أسمع فيه إيقاع أنفاسي، حيث لا تحتاج النجوم إلى ترجمة. فليحتفظوا بقارتهم الصاخبة. أنا أتعلم كيف أحوّل الصمت إلى أغنية، كيف أنسج وحدتي إلى طوف قد يأخذني يومًا إلى حيث لا أعلم.


وحتى ذلك الحين، سأبقى—سيّد الهدوء، أرسم خرائط النجاة في سماء صمتي. على الجانب الآخر من العالم، لكنني لا أقلّ وجودًا عنهم.

أحدث أقدم