مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

الجمرة


هناك صمت من نوع خاص يعقب الحزن—فراغ يتردد صداه حيث كان الضحك يسكن، وسكون ينهش أطراف الروح. ليس مجرد غياب للصوت، بل غياب للمعنى ذاته. تجد نفسك واقفًا وسط أنقاض حياة كانت يومًا نابضة بالألوان، لكنها تحولت إلى ظلال باهتة. النار التي كانت تشتعل داخلك، ذلك اللهيب الخام من الشغف والغاية، خفت حتى بات مجرد وميض. تبقى أنت، تحيط بيديك دفء الجمر الخافت، متسائلًا إن كان سيشتعل من جديد.


أعرف هذا الصمت. لقد شعرت بثقله.


قبل سنوات، دفنت جزءًا من نفسي. استوطن الحزن قلبي كضيف غير مدعو، وأعاد ترتيب أركانه. غطى المرايا، أغلق النوافذ أمام الشمس، وترك مفاتيح البيانو مغطاة بالغبار. في ذلك الخفوت، لم أعد أتعرف على الوجه المنعكس أمامي. شغفي—الكتابة، الإبداع، الإيمان بسحر الغد—أصبح مجرد أثر لحياة بعيدة. تحول العالم إلى متحف لما كان، وكل زاوية فيه تهمس: أتتذكر حين؟


فقدان الشغف لص، لكنه أيضًا معلم. ينزع عنك وهم الثبات، ويكشف لك حقيقة الوجود العارية: لا شيء يبقى. لا الفرح، ولا الحزن، ولا حتى ألم الغياب. لكن في هذه الهشاشة تكمن مفارقة مذهلة. عندما تخبو نيران الشغف، تُجبر على مواجهة ما يكمن تحتها—ذلك الأساس الهادئ، البسيط، غير المتكلف. من تكون عندما يخفت التصفيق؟ ماذا يبقى عندما تُجرد من الأدوار التي لعبتها—المحب، الحالم، المقاتل؟


تُهت في هذا الفراغ لشهور. تعاقبت الفصول، لكن الزمن بدا جامدًا، كأنني محاصر داخل ساعة رملية. ثم، ذات صباح خريفي بارد، لمحت شيئًا: ورقة واحدة تتشبث بغصن شجرة جرداء، ترتجف لكنها ترفض السقوط. بدا لي ذلك غريبًا، وربما متحديًا. لمَ تتشبث؟ تساءلت. ماذا تعرف ولا أعرفه؟


جاءني الجواب ببطء، كضوء الفجر يتسلل عبر ستارة متهالكة. لم تكن الورقة متمسكة خوفًا أو اعتيادًا، بل كانت ببساطة توجد، لم يحن موعد رحيلها بعد. أدركت حينها أن حزني تحول إلى مزار—نصب تذكاري، نعم، لكنه أيضًا حاجز يمنعني من رؤية ما قد ينمو من جديد. الشغف ليس نارًا مشتعلة بلا انقطاع، بل شرارات عابرة، تولد من احتكاك الأمل بالواقع. أن تطالبه بالاحتراق الأبدي هو أن تسيء فهم طبيعته.


بدأت في العناية بالجمر. أشياء صغيرة، في البداية. جملة كتبتها على هامش كتاب. نزهة بلا وجهة محددة. محادثة استمعت فيها أكثر مما تكلمت. توقفت عن السؤال، متى سأشعر بالحياة من جديد؟ وبدأت أسأل، كيف تبدو الحياة اليوم؟ لم تكن الإجابات عظيمة، لكنها كانت صادقة. الحياة كانت مرارة القهوة. الحياة كانت ألم عنقي بعد جلسة طويلة في المحاضرات. الحياة كانت هذا الإصرار الأحمق على كتابة هذه الكلمات، حتى عندما بدت بلا معنى.


هذا ما أدركته الآن، وما أود أن أنقشه هنا لكل من يصل إلى هذه الكلمات: الفقد ليس انطفاءً، بل كشفٌ لمصدر النور. نحن نحزن على النيران لأنها مشرقة ومبهرة، لكن الجمر هو ما يبقى. هو الجوهر الصامد، حتى عندما يعم الظلام. وإذا قاومت الرغبة في إخماده، إذا لم تطالبه بأن يشتعل فورًا، سيعلمك شيئًا جوهريًا: الشغف ليس عرضًا مسرحيًا، بل ممارسة. فعل يومي للحضور، حتى وإن كانت يداك فارغتين، لأن مجرد الرغبة في الحياة هي وقود بحد ذاتها.


لذا، دعه يأتي، هذا الصمت. دعه ينحتك من الداخل. وعندما تكون مستعدًا، اقترب مما تبقى، بلطف. انفخ عليه برفق. انتظر.


الجمر لا يزال هناك.


الضياع، بكل ما يحمله من ألم، ليس نهاية، بل دعوة لإعادة البناء. خفوت الشغف ليس فشلًا، بل فسحة ضرورية، تتيح لنا اكتشاف ما يبقى حين يخفت الضجيج. مهمتنا ليست إعادة إشعال نيران الماضي، بل الاعتناء بالجمر الباقي، بصبر ورفق. ففي هذا الاهتمام قد نجد شعلة جديدة—أكثر هدوءًا، أعمق، وأصدق من ذي قبل.

أحدث أقدم