تخيل للحظة أنك تقف أمام لوحةٍ لغروب الشمس، تتأمل تدرجات الشفق الأحمر القانية وهي تذوب في زرقة السماء. أنتَ ترى "الأحمر"، وتشعر بدفئه، وتدرك "الأزرق" بصفائه. بجوارك يقف صديقك، يومئ برأسه موافقاً على روعة المشهد. تتفقان لغويًا على أن الشمس "حمراء" والسماء "زرقاء". ولكن، في تلك المساحة الصامتة والمُعتمة داخل جُمجمتك، حيث لا يدخل الضوء أبداً بل تدخل الإشارات الكهربائية فقط، يطرح الفكرُ سؤالاً مرعباً ومذهلاً في آنٍ واحد: هل ما أراه أنا أحمرَ، هو نفسه ما تراه أنت؟
مرحباً بك في معضلة "الكواليا" (Qualia)، أو كما يحلو للفلاسفة تسميتها: المشكلة الصعبة للوعي.
الكواليا: نكهةُ الوجودِ الخاصة
إن العلم الحديث، ببرودهِ الموضوعي، يستطيع أن يشرح لنا بدقة متناهية كيف يسقط الضوء على شبكية العين، وكيف تتحول الفوتونات إلى نبضات كهربائية تسري في العصب البصري لتصل إلى القشرة الدماغية. هذا هو الجانب "الكمي" أو الميكانيكي. ولكن العلم يقف عاجزاً، وربما خاشعاً، أمام اللحظة التي تتحول فيها تلك النبضة الكهربائية الصامتة إلى "شعور".
"الكواليا" هي تلك الخاصية الفريدة للتجربة الذاتية؛ هي "مذاق" القهوة المرّ على لسانك الذي لا يمكن لمعادلة كيميائية أن تصفه، هي "لسعة" الألم، وهي "حُمرة" الوردة. إنها الجانب الذي لا يمكن نقله للآخرين. يمكنك أن تصف لصديقك شكل القهوة ومكوناتها، لكنك لا تستطيع أبداً أن تنقل وعيك إلى دماغه ليذوقها بلسانك أنت. نحن، بهذا المعنى، سجناء داخل تجاربنا الحسية، معزولون في جزرٍ من الوعي لا تلتقي إلا عبر جسور اللغة الهشة.
لغز الطيف المعكوس: هل عالمي هو عالمك؟
لعل أكثر الأسئلة إثارةً للجدل في فلسفة العقل هو: "هل نرى جميعاً نفس الألوان؟".
تخيل أنك ولدت بأسلاك عصبية "معكوسة" مقارنة بي. حين تنظر أنت إلى الدم، يترجم دماغك اللون بطريقة أراها أنا (لو تمكنت من الدخول لرأسك) "خضراء". لكنك، ومنذ طفولتك، تعلمت أن هذا اللون يسمى "أحمر". وحين تنظر للعشب، تراه بلونٍ أسميه أنا "أحمر"، لكنك تسميه "أخضر".
نحن نستخدم نفس الكلمات، ونشير لنفس الأشياء، ونتفق تماماً في الوصف، ولن يكتشف أحدنا هذا الاختلاف أبداً حتى الموت.
هذه الفكرة تهزُ ثقتنا في الواقع الموضوعي. إنها تخبرنا أننا لا ندرك العالم "كما هو"، بل ندركه "كما نحن". دماغك ليس كاميرا تنقل الواقع، بل هو فنانٌ تشكيلي يعيد رسم الواقع بناءً على شفرته الخاصة. قد نكون نعيش في عوالم بصرية مختلفة كلياً، لكننا تعلمنا التواطؤ على تسميات مشتركة لنتمكن من التعايش.
الأحلام: مسرحُ العقلِ بلا جمهور
وإذا كان الواقع الخارجي مشكوكاً في توحيده بيننا، فإن "الأحلام" تأتي لتزيد الطين بلة، وتفتح باباً واسعاً للتساؤل عن ماهية الوجود.
في الحلم، أنت ترى وجوهاً، وتسمع أصواتاً، وتشعر بالخوف أو البهجة، وقد تلمس أشياءً صلبة. كل هذا يحدث وعيناك مغلقتان، وجسدك ساكن، وغرفتك مظلمة. من أين جاء الضوء الذي رأيته في الحلم؟ ومن أين جاءت الأصوات؟
الأحلام هي الدليل الدامغ على أن الدماغ قادر على "تخليق" واقع كامل من العدم، دون الحاجة إلى حواس خارجية. في الحلم، الوعي هو الممثل، والمخرج، والجمهور، ومصمم الديكور.
هذا يقودنا لسؤال فلسفي عميق طرحه "ديكارت" قديماً وتناوله فلاسفة العصر الحديث: إذا كان الدماغ قادراً على محاكاة واقع كامل أثناء النوم يبدو حقيقياً تماماً، فما الذي يضمن لنا أن ما نعيشه الآن -في هذه اللحظة- ليس مجرد حلمٍ طويل ومحكم الترابط؟ أو كما يُقال في علم الأعصاب الحديث: "الواقع هو هلوسة متفق عليها، بينما الحلم هو هلوسة خاصة".
الخاتمة: العزلةُ الرائعة
إن الخوض في غمار "الكواليا" والإدراك يضعنا أمام حقيقة متواضعة: نحن لا نرى العالم بأعيننا، بل بأدمغتنا. ونحن لا نتشارك الخبرات ذاتها، بل نتشارك "أوعية" لغوية نضع فيها تلك الخبرات.
قد يبدو هذا الطرح موحشاً، إذ يصور كل إنسان كسجينٍ في زنزانة وعيه المنفردة، لا يستطيع أحد أن يطل عليه ولا هو يطل على حقيقة الآخرين. ولكن، من زاوية أخرى، يضفي هذا سحراً وعمقاً لا نهائياً على الوجود البشري. إنه يعني أن بداخل كل إنسان كوناً خاصاً، فريداً، ملوناً بألوان قد لا يراها غيره، وموسيقاه تعزف بألحان لا يسمعها سواه.
لذا، حين تنظر في عيني شخص آخر المرة القادمة، تذكر أنك لا تنظر إلى جسد فحسب، بل تقف على أعتاب عالمٍ كاملٍ ومجهول، عالمٍ مليء بـ "كواليا" خاصة، لن تتكرر في تاريخ الكون مرتين.
