مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

مرايا العقل: رحلة في دهاليز الوجود



هل سبق لك أن توقفتَ للحظة وتساءلت: ماذا لو كان كل ما نراه مجرد ظلّ لحقيقة أعظم؟ لنبدأ رحلتنا من هذه النقطة بالذات، من حافة الوعي حيث تبدأ الأسئلة وتنتهي اليقينات.

السجن الجميل

تخيل أنك وُلدتَ داخل قصر من المرايا، كل جدار يعكس انعكاسات لا نهائية لصورتك، لصور الآخرين، لأشياء قد لا تكون موجودة أصلاً. منذ نعومة أظفارك، تعلمت تفسير هذه الانعكاسات، أطلقت عليها أسماءً، بنيتَ قواعد لفهمها. هذا القصر هو عقلُك، والمرايا هي حواسُك ومفاهيمُك.

لكن ماذا عن النور الأصلي الذي يخلق هذه الانعكاسات؟ هل فكّرت به يوماً؟ أم أنك ألهتك المرايا عن مصدر النور نفسه؟

لعبة الإدراك

الأصعب ليس اكتشاف أننا نعيش في عالم من التفسيرات، بل اكتشاف أننا نحب سجناءنا. العقل البشري مُصمّم ليبحث عن الأنماط، ليبني القصص، ليخلق المعنى من الفوضى. لكن هل المعنى موجود في العالم، أم أننا ننفخ فيه الروح كما ينفخ الطفل في فقاعات الصابون؟

خذ فنجان القهوة الذي بجانبك الآن. أنت ترى شكلاً، لوناً، تعرف أنه يحتوي سائلاً ساخناً. لكن الحقيقة أن ما تراه هو مجرد انعكاسات ضوئية، ما تشعر به هو مجرد إشارات كهربائية في عقلك. "القهوة" بكل تاريخها وثقافتها ومعناها الاجتماعي - هذه طبقات أضفناها نحن على واقع مجرّد.

المفارقة العبقرية

ها هي اللعبة الفلسفية التي أريد أن أوصلَك إليها: كلما تعمقتَ في البحث عن الحقيقة المطلقة، كلما ابتعدتَ عنها. لأن البحث نفسه عملية تفسير، وتفسيرك هو مرآة أخرى تضاف إلى قصر المرايا.

فيلسوفٌ يسعى لكسر المرايا ليرى ما وراءها، لكن كسر المرايا يحتاج إلى مطرقة، والمطرقة نفسها تنعكس في المرايا قبل أن تحطمها. هل نستطيع الهروب من دائرة التفسير هذه؟

لحظة الانبهار

وهنا تأتي اللحظة السحرية، لحظة الانبهار الحقيقية: عندما تدرك أن السجن قد يكون بوابة، وأن القيود قد تكون أجنحة.

تأمل هذه الفكرة: أن عدم قدرتنا على إدراك الحقيقة المباشرة هو بالضبط ما يمنح الحياة غناها وجمالها. الفن، الحب، الإبداع، الفلسفة نفسها - كلها ولدت من هذه الفجوة بين العالم كما هو والعالم كما نراه.

الشاعر لا يصف وردة، بل يصف انعكاس الوردة في مرآة مشاعرِه. والعاشق لا يحب شخصاً بل يحب انعكاس ذلك الشخص في مرآة روحه. والعالم لا يكتشف قوانين الطبيعة بل يكتشف انعكاساتها في مرآة منطقه.

الخروج من المتاهة دون مغادرتها

لن أعطيك إجابة، لأن الإجابة ستكون مرآة أخرى. بدلاً من ذلك، أدعوك لفعل شيء أكثر جرأة: أن تعيش في قصر المرايا وأنت تعلم أنه قصر مرايا.

عندما تعلم أن واقعك مُصنَّع، تتحرر من عبء الحقيقة المطلقة. عندما تعلم أن مفاهيمك مرايا، يمكنك أن تبدأ في تلميعها أو تحريكها أو حتى كسر بعضها عمداً لتجربة انعكاسات جديدة.

في المرة القادمة التي تشرب فيها قهوتك، جرب أن ترى ليس فنجاناً، بل ترى انعكاسات الضوء، وتذكر أن الحرارة ليست في السائل بل في إحساسك. ثم اشربها كالمعتاد. هذا الوعي المزدوج - رؤية الطبقات مع العيش فيها - هو أعلى درجات الحرية الفكرية.

الخاتمة

اليوم، وأنت تقرأ هذه الكلمات، أنت تنظر إلى شاشة، ترى حروفاً سوداء على خلفية بيضاء. لكنك أيضاً تنظر إلى انعكاس لأفكاري في عقلك، التي هي انعكاس لتجاربي وتأمّلاتي، التي هي انعكاس لعالم أدركه عبر مرايا لا عدد لها.

الانبهار ليس في اكتشاف الحقيقة، بل في اكتشاف عمق اللعبة. كل فهم جديد هو بداية جهل جديد. كل مرآة تكسرها تظهر خلفها مرايا أكثر.


أحدث أقدم