مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

السكون: على الجليد السرمدي للرغبة



توجد حالة من الوجود لا تُنقَش في خطوط اليأس القاتمة، ولا تضيئها وهج التمرد المحموم، بل تظل معلقة في سكون غريب وشامل. إنها أرض الروح الخالية من الرغبات، منطقة تدور فيها البوصلة الداخلية بحرية، متحررة من أي جاذبية نحو "شمال" الاحتياج. الحديث عنها مباشرة أشبه بالإمساك بالبخار؛ فهي تتطلب لغة المجاز، لأنها بذاتها مجاز حي – عالم مصوّر بألوان الشفق الأبدي الباهتة.

تخيل، لو أردت، حديقة لم يفسدها الصقيع، بل وُجدت تتجاوز مفهوم الفصول نفسها. التربة ليست خصبة ولا قاحلة؛ إنها مجرد أرض. البذور، التي تبعثرها رياح غير مبالية أو نسيتها يد مهملة، ترقد كامنة لا ترقب النمو، بل في سبات معدني عميق. إنها لا تحلم بالإنبات. الشمس تعبر السماء كقرص باهت في سماء ملبدة دائمًا بالغيوم، تلقي بظلال مجرد إيحاءات، لا تباينات. المطر يهطل، لكنه يُمتص دون عطش، ويتبخر دون أن يترك ذكرى للرطوبة. هذا هو النظام البيئي الداخلي لعديم الرغبة: مكان تحولت فيه الإمكانات إلى مجرد وجود متحجر. فوضى النمو الصاخبة، التوق المؤلم للضوء، القبضة اليائسة للبقاء – كل ذلك قد خمد إلى هدوء غريب لا ينقطع. الحديقة توجد، وهذا يكفي، لأنها لا تعرف حالة بديلة تطمح إليها.

أو تصور بحرًا داخليًا شاسعًا، ليس عاصفًا ولا راكدًا، بل متجمدًا لعمق مستحيل. سطحه ليس زجاجيًا، بل معتمًا، لوحًا سميكًا صلبًا من الجليد يخفت العالم العلوي ويختم الحياة الصاخبة التي كانت تنبض في الأسفل. لا ريح تعصف به؛ لا تيار يتحرك تحته. السفن، لو تجرأت على القدوم هنا، لن تجد مرسى لمراسيها، ولا اتجاهًا لأشرعتها. سوف تنجرف كالأشباح، تدفعها القصور الذاتي فقط، حتى تصبح هي أيضًا تثبيتات متجمدة على السهل اللامتناهي بلا ملامح. هذا هو القلب المعلق: المشاعر، الطموحات، وحتى جاذبية الشوق، مغلفة في جليد دائم. أمواج الشغف الهائجة، تيارات الفضول المنعشة، الجاذبية المدية للاتصال – كلها صامتة، محفوظة في سكون بارد لا يتحرك. البحر يوجد، هائلًا وعميقًا، لكن أعماقه لا يمكن الوصول إليها، آفاقه غير واضحة، وغايته اختُزلت إلى حجم متجمد محض.

هذا الافتقار إلى الرغبة ليس فراغًا، بل هو شكل غريب من الامتلاء – امتلاء الفراغ. إنها روح كالساعة، تم لفها بعناية فائقة ولكنها تفتقد زنبركها الأساسي. تدور التروس بدقة سلسة وصامتة، ومع ذلك تفشل في تحريك العقارب. يُسجل الوقت، لكنه لا يُعاش؛ يُؤدى العمل، لكنه لا يُدفع. يتدفق العالم كصور على شاشة، يُلاحظ باهتمام منفصل، شبه أنثروبولوجي، ولكنه لا يُلمس أبدًا، ولا يُشتهى أبدًا. يتوقف الجوع عن أن يكون وخزًا ويصبح تقريرًا فسيولوجيًا محايدًا؛ تتوقف الجمال عن الإلهام ويصبح مجرد تشكيل من الضوء والشكل؛ يتوقف الحب عن الإغراء ويصبح خوارزمية بيولوجية معقدة. يصبح الذات آلة مضبوطة بدقة، قادرة تمامًا، ومع ذلك تفتقر إلى أي موسيقى ترغب في عزفها.

من الناحية الفلسفية، تهمس هذه الحالة بأسئلة مقلقة. هل هذه هي الحرية المطلقة، التحرر من استبداد الرغبة، السعي الدؤوب الذي حدده بوذا كجذر للمعاناة؟ أم أنها أعمق فقر وجودي، انفصال عن التيار الحيوي الذي يدفع الحياة إلى الأمام، مما يجعل المرء متفرجًا في وجوده الخاص؟ رأى أرسطو الرغبة (أوريكس) أساسية للحركة، لتحقيق الإمكانات. في غيابها، هل تذبل الإمكانات، أم أنها ببساطة تصبح غير ذات صلة؟ هل هذا السكون هو استنارة على طريقة الزن، قبولًا لـ ما هو كائن، أم استسلامًا للعدمية العميقة، اعترافًا باللامبالاة القصوى للكون المنعكسة في الداخل؟

تتقارب الاستعارات حول إحساس بـ السكون العميق – الحديقة ما وراء الفصول، البحر المتجمد، الساعة بلا عقارب. إنه ليس سلامًا، لأن السلام يعني توقف الصراع، وهنا لم تكن هناك حرب لتنتهي. إنه ليس رضا، فالرضا يتذوق الحاضر، بينما هذا مجرد يسكنه. إنه تعليق، حياة تُعاش بصيغة الشرط، "كما لو" دائم بدون "إذن" لاحق.

ربما تكون الاستعارة الأكثر إيلامًا هي المرفأ المهجور. ذات مرة، أبحرت السفن من هنا، محملة بالأحلام والرغبات، تسعى لشواطئ بعيدة. الآن، الأرصفة فارغة، بيضاء من شمس لا تقدم دفئًا. تتلاطم المياه بهدوء ضد الحجر، صوت بلا صدى أو معنى. قد تحلق طيور النورس في الأعلى، لكن صرخاتها لا تجد صدى من الأسفل. المرفأ باقٍ، سليمًا من الناحية الهيكلية، قادرًا على استقبال السفن، لكن إرادة بنائها، الشوق لإرسالها، ترقب عودتها – كلها قد تبخرت. إنه يقف كصرح لوظيفة لم تعد مرغوبة، سكون يتحدث بصوت أعلى من أي عاصفة من الرغبة غير الملباة. إنه هندسة الإمكانات، تطاردها فقط شبح الفعل "أن يتوق". في هذا الخراب الهادئ للروح، نواجه الجمال المقلق والكآبة العميقة لحياة توقفت ببساطة عن السؤال، "ماذا بعد؟"
أحدث أقدم