مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

عبث طوافي

 


إن عبثية الوجود الإنساني تشكل جانباً عميقاً لا مفر منه من حياتنا، وهي بمثابة تذكير دائم بالتناقضات والمفارقات المتأصلة التي تحدد حالتنا. ولا تشكل هذه العبثية مجرد تجريد فلسفي، بل إنها تجربة معاشة تتخلل كل جانب من جوانب وجودنا.

وفي قلب هذه العبثية يكمن الصدام الأساسي بين حاجتنا العميقة إلى المعنى واللامعنى الواضح للعالم. وكما يقول ألبير كامو ببلاغة، فإن العبثية تولد من المواجهة بين شوقنا إلى السعادة والعقل، و"الصمت غير المعقول للعالم". وهذا الصمت ليس مجرد افتقار إلى الاستجابة، بل هو نفي نشط لرغباتنا في التماسك والغرض. والعالم، في لامبالاته، يقف على النقيض الصارخ لتطلعاتنا المتحمسة، مما يجعل سعينا إلى المعنى عقيماً بطبيعته.

إن وجهة نظر توماس ناجل حول العبثية تسلط الضوء بشكل أكبر على هذا الصراع الداخلي. إن العبثية لا تنشأ عن علاقتنا بعالم لا يلين، بل تنشأ عن قدرتنا على تجاوز الذات. فنحن نأخذ حياتنا على محمل الجد، ونستثمر قدراً هائلاً من الطاقة والاهتمام في مساعينا، ولكننا نمتلك أيضاً القدرة على التراجع والنظر إلى هذه المساعي باعتبارها تعسفية وعرضية. وهذا المنظور المزدوج يخلق توتراً لا يمكن التوفيق بينه وبين ما نبذله من جهود، حيث لا نستطيع التخلي عن التزاماتنا الجادة على الرغم من إدراكنا لسخافتها المتأصلة.

وتتفاقم هذه الحالة العبثية بسبب عجزنا عن الإفلات منها. فنحن محاصرون في حلقة مفرغة من الجدية والشك، حيث تقوض محاولاتنا لإيجاد المعنى باستمرار بسبب إدراكنا لسخافتها. إن صورة سيزيف التي رسمها كامو، والذي يدفع صخرته إلى أعلى الجبل إلى الأبد فقط لتتدحرج إلى أسفل، تشكل استعارة مؤثرة لهذا العبث. إن حياتنا عبارة عن سلسلة من المهام السيزيفية، حيث نتعب في معرفة أن جهودنا في نهاية المطاف لا معنى لها.

إن عبثية حياتنا تتجلى أيضاً في الأمور العادية والتافهة. فنحن نجد أنفسنا منغمسين بعمق في أمور تافهة من منظور أوسع. فالوظيفة ذات الأجر الجيد ولكنها تستنزف أرواحنا، أو نوبة محبطة من عجز الكاتب عن الإبداع، أو السعي الدؤوب وراء الملذات العابرة ــ كل هذا يوضح لنا عدم التماثل بين حاجتنا إلى المعنى ورفض العالم توفيره لنا. إن "مشاكل العالم الأول" هذه ليست مجرد شكاوى تافهة بل هي أعراض لمرض وجودي أعمق، حيث يفشل بحثنا عن المعنى إلى الأبد بسبب إدراكنا لعدم معناه المتأصل.

وعلاوة على ذلك، فإن محاولاتنا للتعامل مع هذا العبث غالباً ما تؤدي إلى المزيد من العبث. فنحن ننضم إلى المنظمات، ونعتنق الإيديولوجيات، وننخرط في سرديات كبرى في محاولة عقيمة لفرض المعنى على عالم يبدو غير مبال. ولكن كما يزعم ناجل، فإن هذه المشاريع تستمد معناها فقط من تفسيراتنا الذاتية، وبالتالي فهي لا تستطيع أن توفر الغرض الموضوعي الذي نسعى إليه. إننا نطارد دوماً سرداً عظيماً مراوغاً، لنكتشف أن الإجابات على أسئلتنا الوجودية لا تكمن في حقيقة كونية بعيدة، بل في لحظات عابرة من حياتنا اليومية.

وفي هذا السياق، يبدو مفهوم التحدي، كما اقترحه كامو، بمثابة لفتة رومانسية أكثر منه حلاً قابلاً للتطبيق. إن التحدي ضد عالم غير مبال قد يضفي على حياتنا قدراً من النبل، ولكنه لا يخفف من عبثية الأمر؛ بل إنه يخفيه ببساطة تحت ستار من البطولة. ويبدو اقتراح ناجل بالتعامل مع العبثية بالسخرية بدلاً من البطولة أو اليأس أكثر واقعية، ولكن حتى هذه السخرية مصبوغة بروح الدعابة السوداء التي تعترف بعبثية موقفنا.

وفي نهاية المطاف، فإن عبثية حياتنا هي تذكير دائم بمنفانا الوجودي. فنحن غرباء في عالم غريب، وتتقلص إيماءاتنا وملاحقاتنا إلى تمثيليات صامتة لا معنى لها عندما ننظر إليها من الخارج. إن هذا الإدراك من شأنه أن يثير فينا شعوراً عميقاً بالغثيان وعدم الارتياح، ونحن نواجه الطبيعة الميكانيكية والتعسفية لوجودنا.

وفي الختام، فإن عبثية حياتنا ليست شيئاً يمكن الاحتفال به بسخرية خفيفة أو تحديه بمواقف بطولية. إنها حقيقة صارخة لا تقبل الاستسلام تؤكد على عبثية أعمق تطلعاتنا. فنحن محاصرون في حلقة مفرغة من الجدية والشك، ونطارد إلى الأبد ظلال المعنى في عالم يظل غير مبالٍ بشكل حازم. وهذه هي الحقيقة المظلمة التي لا مفر منها لوجودنا السخيف ــ وهي الحقيقة التي يتعين علينا أن نواجهها بالصدق الكئيب الذي تتطلبه.

أحدث أقدم