مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

عندما يطفو ضخب القاع


تعتبر الموسيقى الشعبية أحد المكونات الرئيسية للثقافة العربية، وقد عُرفت بقدرتها على التعبير عن مشاعرنا وتجاربنا اليومية. ومع ذلك، فإن هذا النوع من الموسيقى لا يخلو من العيوب والنقائص التي تستحق وقفة تأمل ونقد. قد يصل الأمر بالبعض إلى اعتباره مظهراً من مظاهر الانحدار الثقافي، في ظل ما يقدمه من محتوى يمكن أن يُفهم كتحريف للفن وتفاهة في الرسائل.

تُعتبر الموسيقى الشعبية في غالب الأحيان ترجمة للواقع اليومي، لكن هذا لا يعني أن جميع ما تقدمه يرتقي إلى مستوى النجاح الفني أو الثقافي. كثير من الأغاني الشعبية تفتقر إلى العمق والمحتوى الفكري، وتكتفي بتكرار موضوعات سطحية تتعلق بالحب والمشاعر الخادعة. إن الاستسلام لهذه المواضيع الهزيلة يساهم في تآكل القيم والإبداعات الفنية، بحيث يصبح الالتفاف حول الرومانسية المفرطة وتفاصيل الحياة اليومية المحدودة هو السمة الغالبة على هذه الأغاني.

يستطيع المستمع أن يلاحظ أن العديد من الفنانين في ساحة الموسيقى الشعبية قد انغمسوا في تقديم أعمال تفتقر إلى الأصالة. تلفت الأنظار نصوص الأغاني التي تُركز على المظاهر الجسدية، الرغبات السطحية والمواقف الابتذالية، مما يشجع على ترويج ثقافة التفاهة. هذه الشريحة من الموسيقى تعكس قيمة مخجلة، تعكس انحطاط ذوق الجمهور الذي يتقبلها ويمجدها، مما يشير إلى أزمة حقيقية في الوعي الثقافي.

إن الموسيقى الشعبية، بدلاً من أن تكون أداة لتعزيز الهوية الثقافية، قد أصبحت أداة لترويج تمييع ثقافتنا. لا تساهم الأغاني الشعبية الحالية في إبراز الفخر بالتراث بل تعمل على تشويه الصورة الحقيقية للثقافة الشعبية بتقديمها كشيء مبتذل. إن الارتباط بالأغاني التي تجهل التاريخ والمعاني العميقة لنوع الموسيقى الشعبي يُفضي في النهاية إلى فقدان الهوية الثقافية الحقيقية.

تسهم وسائل الإعلام الحديثة في زيادة الاستهلاك السريع للموسيقى الشعبية، مما يعني أن هناك نوعاً من "الوجبات السريعة" الثقافية. تهيمن الأغاني السطحية على قوائم الاتجاهات، مما يؤدي إلى تقليص مساحة الفنون الحقيقية والنوعية. تعزز هذه الظاهرة من إمكانية ظهور أسماء جديدة كل يوم دون وضع معايير فنية حقيقية، مما يُسهم في تفشّي ظاهرة عدم الاكتراث بالنوعية والعناية الفنية.

تُعتبر الموسيقى الشعبية السطحية انحرافاً عن المعايير الفنية التقليدية، حيث تساهم في إقصاء الأعمال الأرقى والتي تتطلب تفكيراً عميقاً ومهارات فنية متقدمة. على الرغم من تزايد عدد الفنانين الشعبيين، فإن الأغاني الجيدة تعاني من الإهمال أو التهميش، والفنانين الذين يحاولون التخلي عن التفاهة يجابهون صعوبات في الحصول على الفرص. إذاً، تمتد آثار الموسيقى الشعبية السلبية لتشمل كافة أبعاد الثقافة الفنية، مُشكّلة عائقاً أمام الإبداع الحقيقي.

الموسيقى الشعبية، رغم ما تتيحه من ترفيه لحظي، تعدّ مسؤولية ثقافية عظيمة. يتطلب الأمر وقفة حقيقية لإعادة التفكير في الرسائل التي يتم نقلها من خلال هذه الأغاني. ينبغي إعطاء الأولوية للأعمال الفنية الأصيلة والتي تعكس الهوية الثقافية الحقيقية، ورفض السطحية والتفاهة كمظاهر للانحدار. يُفترض أن يكون للفن رسالة وقيمة، وليس مجرد وسيلة للاستهلاك السريع.

أحدث أقدم