مساحة بواسطة: محمد عبدالفتاح
    

عالم العجائب الزائل


في نسيج الوجود البشري العظيم، تُعَد الطفولة خيطًا عابرًا ولكنه يشكل جزءًا من الحياة، منسوجًا بألوان نابضة بالحياة من الفضول والخيال والبراءة. هذا العالم الزائل، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، هو بوتقة لتشكيل الهوية، وأرض اختبار للذات الناشئة. وبينما نتنقل عبر ممرات الذاكرة المتعرجة، نجد أن الطفولة هي أرض مألوفة وغريبة في الوقت نفسه، ومشهد يتحول ويتغير مثل مشهد الأحلام.

لطالما كان الفلاسفة مفتونين بغموض الطفولة، سعياً إلى كشف أسرارها واستخلاص جوهرها. افترض جان جاك روسو في عمله الرائد "إميل" أن الطفولة هي حالة طبيعية، غير ملوثة بالتأثيرات المفسدة للمجتمع. وفقًا لروسو، فإن الطفل هو لوح فارغ، أي لوحة بيضاء ينقش عليها العالم دروسه. وقد كان لهذا المفهوم الرومانسي للطفولة باعتبارها كيانًا نقيًا وهشًا تأثير عميق على خيالنا الثقافي.

ومع ذلك، فإن الطفولة هي أيضًا عالم من التناقضات المتأصلة. إنها وقت من الطاقة والإبداع اللامحدودين، عندما لا يعرف الخيال حدودًا وتبدو الاحتمالات لا حصر لها. ومع ذلك، فهي أيضًا فترة من الضعف والاعتماد، عندما يكون الطفل تحت رحمة قوى خارجية خارجة عن سيطرته. وقد عبر ويليام وردزوورث عن هذه المفارقة بشكل جميل في قصيدته "قصيدة: إشارات الخلود من ذكريات الطفولة المبكرة"، حيث كتب:

"ولادتنا ليست سوى نوم ونسيان:

الروح التي تشرق معنا، نجمة حياتنا،

تغرب في مكان آخر،

وتأتي من بعيد".

هنا، يقترح وردزوورث أن الطفولة ليست مجرد مرحلة من مراحل النمو بل هي حالة ميتافيزيقية، تحمل في طياتها همسات الخلود. إن روح الطفل لم ترتبط بعد بشكل كامل بالعالم الأرضي؛ فهي تحتفظ باتصال باللانهائي والإلهي.

بينما نتأمل طفولتنا، غالبًا ما نندهش من هشاشة وجمال تلك السنوات المبكرة. تطفو الذكريات المدفونة منذ زمن طويل على السطح، مثل شظايا لغة منسية. نتذكر أفراح اللعب البسيطة، والمتعة الملموسة لاستكشاف العالم الطبيعي، والعجب الخالص الذي رافق كل اكتشاف جديد. تعمل هذه الذكريات كتذكير مؤثر بأن الطفولة ليست مجرد مرحلة ولكنها طريقة للوجود في العالم - طريقة تتميز بالانفتاح والتقبل والرهبة.

ولكن الطفولة تتسم أيضاً بعدم ثباتها. فمع تقدمنا ​​في السن ونضجنا، يخضع العالم من حولنا للتحول، وتتراجع سحر الطفولة ببطء. وتصبح الحدود بين الواقع والخيال أكثر تحديداً، ويكبح جماح الخيال، الذي كان ذات يوم قوة عظمى، تدريجياً بفعل قيود العقل والعقلانية.

وقد صور مارسيل بروست هذه العملية من الإحباط بشكل مؤثر في عمله الضخم "بحثاً عن الزمن الضائع". ويشير راوي بروست، وهو يتأمل طفولته، إلى أن:

"الذاكرة الحقيقية الوحيدة هي ذاكرة القلب، وهي ليست ذاكرة الدماغ... إن ما يتذكره القلب ليس ما حدث، بل ما شعر به".

ويقترح بروست أن ذكريات الطفولة ليست مجرد ذكريات للأحداث بل هي تقطير للعواطف، وتبلور لأعمق تجارب القلب. وهذه الذكريات ليست قابلة للتحليل العقلاني أو التفسير المنطقي؛ فهي توجد في عالم يتجاوز اللغة، وهو عالم لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الحدس والشعور.

عندما نتعامل مع تعقيدات مرحلة البلوغ، فمن السهل أن ننسى دروس الطفولة. فنغرق في مسؤولياتنا، وقلقنا، ومخاوفنا. ونفقد رؤية العجب الذي كان يميز علاقتنا بالعالم ذات يوم. ومع ذلك، فإن هذا الشعور بالعجب على وجه التحديد هو ما نحتاج إلى استعادته إذا كنا نريد أن نعيش حياة أصيلة وذات معنى.

كتب الفيلسوف فريدريك نيتشه ذات يوم:

"يجب أن يكون لديك فوضى بداخلك حتى تلد نجمًا راقصًا".

تشير كلمات نيتشه إلى أن الإبداع والابتكار والنمو تتطلب جميعًا الاستعداد لاحتضان عدم اليقين، والمغامرة في المجهول. وهذا هو بالضبط ما يفعله الأطفال عندما يلعبون، وعندما يتخيلون، وعندما يستكشفون. فهم ليسوا مقيدين بالمعايير أو التوقعات التقليدية؛ فهم أحرار في خلق قواعدهم الخاصة، وعوالمهم الخاصة.

كبالغين، من الأفضل أن نتذكر هذا الدرس. نحن بحاجة إلى تنمية الشعور بالفضول، والشعور بالرهبة، والشعور بالعجب. نحن بحاجة إلى أن نكون على استعداد للمخاطرة، والتجريب، والاستكشاف. نحن بحاجة إلى الاعتراف بأن الحياة ليست كيانًا ثابتًا بل عملية ديناميكية، تتطلب التكيف والتطور المستمر.

وفي الختام، فإن الطفولة هي عالم من السحر، وعالم من الغموض، وعالم من العجب. إنها وقت الاكتشاف، ووقت الاستكشاف، ووقت الإبداع. وبينما نفكر في طفولتنا، نتذكر أهمية الاحتفاظ بهذا الشعور بالعجب، وهذا الشعور بالرهبة.

أحدث أقدم